مقالات

عن هوية سورية جامعة وثلاث مسارات أمام مشروع الإدارة الذاتية

بشير أمين 

أبرزت الأحداث المستجدة في سوريا تقسيمات ومناطق النفوذ لكلّ من أطراف الصراع وعمّقتها. إذ فتحت معركة “ردع العدوان”، بالتزامن مع ” فجر الحرية” من قبل هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري على حلب ومناطق من إدلب وحماه، الباب لاحتمالات متعددة، وأعادت ملفات قديمة للواجهة. ليعقبها معركة مجلس دير الزور العسكري على ميليشيات إيرانية شرقاً بدعم من التحالف. 

وما يصعّب التكهن بما ستؤول إليه الأمور في الأسابيع القادمة، عدم توافق الأحداث بشكل متسارع مع الهدوء النسبي السابق منذ اتفاق خفض التصعيد (آستانا). كانت الرغبة التركية خلال العقد الماضي واضحة في إنشاء منطقة عازلة تدعم فيها المعارضة إسلامية الطابع، ومحاربة مشروع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية باعتباره مشروع مرتبط ايديولوجياً بحزب العمال الكردستاني. بينما واصلت روسيا دعم النظام ولعب دور الوسيط بين إيران وتركيا، مع الحفاظ على مصالح عسكرية في مناطق متفرقة من سوريا. وتستمر الولايات المتحدة بدعم مناطق الإدارة الذاتية في شرق الفرات عن طريق التحالف الدولي لمحاربة داعش وأسهمت في استقرار وتوسع أكبر للإدارة الذاتية. 

الظاهر العام، ربما، سعي الأطراف المتعددة لتعزيز مناطق نفوذها والحصول على أوراق جديدة للضغط والتفاوض قُبيل وصول الإدارة الأمريكية الجديدة. والظاهر أيضا، حتى الآن على الأقل، انحسار للدور الإيراني وانكماش الميليشيات التي تدعمها، بالإضافة لخسارات كبيرة للنظام، خاصة بعد حرب إسرائيل على حزب الله وإيران.  

فإذا كانت إيران والنظام الخاسران الأكبران حتى الآن، ومصير حلب وقوات المعارضة مبهم إثر التدخل الروسي المحدود، فما مصير مشروع الإدارة الذاتية، وما هي المسارات التي تنتظر مجلس سوريا الديموقراطية وقوتها العسكرية (مسد/قسد)، خاصة بعد خروجها ” الآمن” من تل رفعت، وربما أحياء سيطرتها داخل حلب. 

ثلاث مسارات يمكن أن تحدد قدرة المشروع على النجاة أو تهدد وجودها. والنجاة هنا تعني، في حدودها الدنيا، الاستمرار في فلسفة الحَوكمة الإدارية الخاصة، الحفاظ على القوام المؤسساتي الذي بنته، والتمكن من إيجاد صيغة توافق مع الأطراف السورية الأخرى تجنبها التهديد التركي وتهديد النظام. في الأسطر التالية أناقش ثلاث مسارات محتملة يمكن أن توفر لقسد إمكانية عالية للنجاة بمشروعها في سوريا، وتساؤلاً حول إمكانية خلق هوية سورية جامعة. 

توافق تركي سوري: 

قطعت رد العدوان سُبل التطبيع بين النظامين على الأرجح. ولأن مشروع قسد بالأساس وُلد من استغلال تدهور علاقة الأسد بأردوغان، فأي عودة للعلاقات ستكون تهديدا لمشروع الإدارة الذاتية أو بطاقة عبور للكرد نحو انكماش وشقاق أكبر مع باقي السوريين.

مع بداية الثورة والدعم التركي للمعارضة السورية، ضغط النظام على تركيا من خلال الورقة الكردية، فسهّل تحرك حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وانسحب من مناطق الكثافة الكردية. ورغم محاولات تركيا في عزل الورقة الكردية من خلال بدء محادثات سلام لم تستمر طويلا مع حزب العمال الكردستاني (٢٠١٢ حتى ٢٠١٥)، استمر في محاربة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD ومشروعها في سوريا باعتباره مرتبط بنيوياً بحزب العمال الكردستاني. ولا يخفى دعم تركيا لفصائل تخصص عملها لاحقاً في محاربة الإدارة الذاتية، بل وحتى تسهيل عبور عناصر من داعش. 

ويمكن قراءة مساعي التطبيع التركي السوري الأخيرة محاولة جديدة لإضعاف قسد، ولكن رفض النظام وبدء معركة رد العدوان قد تكون ابعدت هذا التخوف لدى قسد. فمنذ معركة كوباني ٢٠١٥، وانهيار مفاوضات تركيا وحزب العمال في تركيا، نجى مشروع الإدارة الذاتية وتمكن من التوسع بعد تلقيه الدعم من التحالف الدولي لمحاربة داعش و مكنها من الحصول على مناطق سورية واسعة. ورغم انتكاسات عفرين، رأس العين وجرابلس، والجرائم الفظيعة بحق المدنيين الكرد وتهجيرهم، وفرض التغيير الديموغرافي، استمر مشروع الإدارة الذاتية في التطور. بل ساعدها ذلك توسيع قاعدتها الجماهيرية وطرح نفسها حامية للحاضنة الكردية.  

 وإذا استمر الوضع القائم، يمكن الحديث الآن عن زعزعة في اتفاق أستانا. ذلك يترك أمام أردوغان التفاوض مع روسيا والولايات المتحدة من أجل الضغط على قسد، عملية مقايضة مقابل تخلي القوتين الكبيرتين عن أي دعم لمشروع مسد/قسد. فليس موقف أردوغان متقادم عندما تململ من دعم حلب، وصرّح بأن حربه في سوريا هي ضد الإرهاب فقط وليس ضد دول أو أشخاص بعينهم، ابان سقوط حلب عام ٢٠١٦. 

انسحاب الولايات المتحدة والسيناريو الأسوأ 

يشكل انسحاب الولايات المتحدة السيناريو الأسوأ ربما على مشروع الإدارة الذاتية، إذ يتركها رهن التوافق الروسي التركي والإيراني بشكل أقل. وإن لم يكن لروسيا نية في إنهاء قسد، فلن تتردد تركيا أو النظام في تقويض مشروعها. ولا يمكن توقع ما يمكن أن ينتج عن انسحاب أمريكي مفاجئ من هذه المنطقة، سواء كان في عودة داعش أو استباحة تركية للمنطقة، او نشوب صراع مفتوح على هذه المنطقة. الغالب في هكذا انسحاب هو ترك فوضى، وتهديد وجودي لمشروع الإدارة. وقد لوّحت قسد بتسليم هذه المناطق للنظام تجنبا لتدخل الجيش الوطني وتركيا واحتمالات انتهاكات وعمليات انتقامية، إلا أن النظام في حالة الضعف الحالية لا يبدو قادرا على العودة. وبالطبع تصبح المنطقة عرضة لانتقام النظام أيضا. 

تبدو جميع السيناريوهات سيئة لقسد، لكن لا وجود لمؤشرات حقيقية على انسحاب أمريكي مفاجئ، بل يبدو وجوداً استراتيجياً. والوجود الأمريكي لم يعد مقتصرا على القضاء على داعش، انما أصبح سداً أمام التمدد الإيراني ودخول الميليشيات الى سوريا، وتهريب السلاح لسوريا وحزب الله. ويمكن أن نستذكر هنا عمليات التحالف وقسد ضد بعض العشائر المدعومة من النظام وإيران على مدى أكثر من عام. وإنما يستمر التحالف بإرسال المزيد من الدعم وآخرها بدء معركة في دير الزور ضد ميليشيات إيرانية بعد معركة ردع الفرات، وانسحاب قسد من تل رفعت. 

ومع أن البعض يرى أن ترمب صاحب توجه اقتصادي ومحافظ وليس عسكري، ووعد الأمريكيين بعدم إرسال أبنائهم للخارج في ولايته الأولى، فان ذلك ليس من أولويات الناخب الأمريكي اليوم. زد عليه، عدم انسحاب الولايات المتحدة في حقبة دونالد ترامب الأولى على الرغم من إعلانه نيته بالانسحاب من سوريا. كما أن الوضع الإقليمي لا يشي برغبة انسحاب. انتهاء محاربة تنظيم داعش قد لا ينهي وجود الولايات المتحدة، لأن قطع الطريق على إيران يبدو هدفا ألح في المرحلة الحالية. 

لا يبدو هذا المسار الأكثر قرباً من التحقيق، وقد يكون مرهون لحلول بديلة مثل نشر قوات محايدة (قوات عربية مثلا) لضمان السلم ومنع الاشتباك بين الإدارة الذاتية وتركيا. بالتالي، من الممكن أن يضعف الانسحاب الامريكي بجميع احتمالاته نفوذ الإدارة الذاتية ومشروعها. 

الهوية الوطنية “الضائعة”: 

الإطار الثالث، وهو يعتمد الانسحاب الأمريكي حاصلاً، مع فرض قرارات مجلس الأمن وفرض نوع من التوافق السياسي في سوريا استمرارا في مبادرات الجامعة العربية، إنهاء حكم الميليشيات سلطات الأمر الواقع، واستمرار تراجع قوة إيران وحزب الله. ودفع المؤثرين على أطراف الصراع، نحو حل سياسي ولو كان هشاً. 

سيطلب ذلك بلورة مفهوم الــ “هوية وطنية جامعة للسوريين” من كلام مجرد إلى حقيقة واقعية. فهل توجد هوية سورية جامعة ولماذا قد لا تكون قسد جزءا من هذا الحل السحري. 

استطاعت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا خلال ما زاد عن سنوات عشر أن تكون الطرف الأكثر براغماتية في الصراع السوري، وأظهرت ليونة معقولة في خلق توازن بين تأمين حد أدنى من المتطلبات الخدمية والأمنية، ترصين التحالفات العسكرية واللعب على التوازنات الإقليمية، ونجحت من تمييز نفسها بهوية وثقافة متفردة عن محيطها. في حين نجحت في تحقيق مكتسبات عديدة، مرّت أيضا بأوقات عصيبة هددت وجودها. لتكون في المحصلة، حتى الآن، أحد أكثر الأطراف السورية تنظيماً وفاعلية. رغم الاختلاف على مشروعية وصول قسد لما هي عليه من عدمها، فإن برنامجها السياسي يقدم هوية سياسية سورية جامعة، تتبنى العلمانية واللامركزية. فهل تقدم أطراف سورية أخرى هوية جامعة واعدة للسوريين؟

لا يقدم النظام بطبيعة الحال أي هوية جامعة للسوريين. والهوية الوحيدة التي قدمها لسوريا على مدى عقود كانت هوية “سوريا الأسد”. على الجانب الآخر لم تقدم المعارضة حتى الآن هوية جامعة. العكس تماما، أظهرت المعركتين الأخيرتين من جديد نية المعارضة في إنهاء أي وجود كردي وأعادت لأذهان الكرد عقداً من الانتهاكات الممنهجة ضدهم. فبعد محاصرة قسد في حيي الاشرفية وشيخ مقصود في حلب، وتل رفعت، أجبرت فصائل المعارضة قسد للتوجه نحو مناطق نفوذها في شرق الفرات. الأمر الذي أدى إلى نزوح جماعي جديد لمهجرين كانوا أصلا مهجرين قسراً من عفرين وغيرها. ورغم تجنب الاشتباك حتى الآن وعرض المعارضة تطمينات للمدنيين، لا يثق المجتمع الكردي بها. والإصرار على شيطنة مشروع الإدارة الذاتية على أنه كردي قومي مناهض للثورة، يزيد من شعبية قسد في مناطق شرق الفرات (من الكرد والمسيحيين وعرب المنطقة وكل من هو متخوف من تشدد المعارضة)، ويزيد من انكماش هذا المشروع بعيدا عن هوية وطنية مزعومة. أبعد من ذلك، يصبح هذا المشروع بالنسبة لمعارضي قسد ملاذا يحميهم من تطهير عرقي. 

لا يبدو هذا المسار مرحِباً بقسد ومشروعها، ولا يمكن بأية حال استمرار شيطنة مشروعها ووصفه بالتخوين والانفصالية أن يكون هوية جامعة. العودة من حرب دموية إلى حل سياسي وطاولة حوار، يتطلب رغبة بأدنى درجات القبول من الطرف الآخر. وفي حين ترى قسد أنها تقدم نموذجا ما، لا يبدو أن الأطراف الأخرى منفتحة على الاستماع. 

هل يمكن تصديق طرح قسد؟ 

تعي مسد/قسد تماما أن الحكم بمنطق الميليشيا لن يكون في مصلحتها، لذلك تحاول ما استطاعت صنع بعض التغييرات الهيكلية.  حتى العام ٢٠١٥، وبعد نجاتها من تنظيم الدولة كانت الإدارة الذاتية تسلك سلوكا أحاديا وقمعيا بشكل سافر، بالإضافة إلى التفرد في القرار وسيطرة أيديولوجية الحزب على تصرفاتها السياسية، مثل إعلان الفيدرالية من طرف واحد. لكن منذ ذلك الحين بدأت تظهر مؤشرات على التغيير في خطابها. يمكن التشكيك بسهولة في جدية التغيير إلا أن بعض التغيرات يمكن ملاحظتها فعلا ببعض الأفعال. منذ هزيمة عفرين عام ٢٠١٨ على سبيل المثال، قامت مسد بالتقرب من المكونات الأخرى بشكل أكبر، الاعتماد على مجلس سوريا الديموقراطية كممثل سياسي وإبقاء حزب الاتحاد الديموقراطي حزب ضمن منظومة أكبر، التخلي عن شعار الفيدرالية في مؤتمرها المنعقد صيف ٢٠١٨ وتبني اللامركزية السياسية، لتعود وتطرحها من جديد بشكل مختلف ضمن العقد الاجتماعي (٢٠٢٣). تراجع في استخدام تسمية (رجافا)، والانخراط في محادثات أكبر مع أطراف سورية أخرى آخرها مؤتمر بروكسل (مسار). 

الإيمان بأن الإدارة الذاتية ستتحول إلى ديمقراطية مزدهرة بشكل مفاجئ، غير منطقي وحالم. بل قد يكون طلباً مبالغاً فيه في سوريا الحالية. لكنه أيضا الجانب الوحيد الذي يخضع لقرار وقدرة الحزب بشكل كامل ليكون حليفاً واعداً في حال حصول أية توافقات إقليمية. وقد لا يعني ذلك أنه الحل السحري الوحيد للنجاة، لكنه يبقى الانفتاح على المعارضة المحلية واشراكها في إدارة المنطقة، كبح وإنهاء منظمات مثل “الشبيبة الثورية”، عدم الخوض في معارك خاسرة (الانسحاب من تل رفعت مثالا) وإظهار مرونة للحوار، جميعها أدوات فاعلة في الإبقاء على تحالفاتها القوية حتى الآن، وتجنب الخطر التركي. خطوات قد تسمح في زيادة الأوراق والقنوات التي من الممكن أن تساهم في الإبقاء على هيكل الإدارة الذاتية.

تمكنت الإدارة الذاتية إذن من تسويق نفسها كقوة يمكن الاعتماد عليها بشكل أفضل في السنوات الأربع الأخيرة، وارتفاع إمكانية نجاة المشروع لا يعني بالضرورة التصالح التام معه. لكنه قد يكون مؤشر على إمكانية حل سياسي توافقي بين الأطراف السورية، والبدء في البحث عن هوية سورية جامعة بدلاً من فرض هوية ” وطنية” متهالكة غير واضحة الملامح وخاصة على الفئات المهمشة والتي تحمل مظلمة تاريخية. 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back To Top